حرية المعتقد في قفص التجنيد.. ليتوانيا تخسر مجدداً أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان

حرية المعتقد في قفص التجنيد.. ليتوانيا تخسر مجدداً أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان

قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ مؤخرًا بأن ليتوانيا انتهكت الحرية الدينية لأحد مواطنيها من طائفة شهود يهوه، بعدما رفضت السلطات طلبه استبدال الخدمة العسكرية الإلزامية بخدمة مدنية بديلة، وجاء الحكم ليؤكد للمرة الثانية خلال عامين إخفاق النظام الليتواني في تحقيق توازن بين مقتضيات الأمن القومي واحترام حقوق الأفراد في حرية المعتقد، وهو ما يضع في الواجهة مجددًا قضية المستنكفين ضميريًا في أوروبا الشرقية.

تعود القضية إلى عام 2015 حينما رفض إريكاس روتكوسكاس، قس من شهود يهوه، الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية بدعوى تعارضها مع معتقداته الدينية، وكان روتكوسكاس قد طلب أداء خدمة مدنية بديلة، لكن السلطات العسكرية رفضت طلبه، وهو ما أيدته المحاكم المحلية، ورغم تعليق دعوته للتجنيد لاحقًا نتيجة اكتمال أعداد المتطوعين، فإن المحكمة الأوروبية رأت أن حقه الأساسي في حرية المعتقد قد انتُهِك.

وأمرت المحكمة الحكومة الليتوانية بدفع تعويض مالي رمزي قدره ألف يورو للمدعي مؤكدة في حكمها أن البدائل المتاحة عن الخدمة العسكرية في ليتوانيا "مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالجيش ولا يمكن اعتبارها منفصلة أو مدنية بحق".

سوابق قضائية مشابهة

هذا الحكم ليس الأول من نوعه ضد ليتوانيا، ففي يونيو 2022، أصدرت المحكمة الأوروبية حكمًا لصالح مواطن آخر من شهود يهوه يُدعى ستانيسلاف تلياتنيكوف، كان قد رفض التجنيد عام 2015 لذات الأسباب الدينية، حينها شددت المحكمة على أن النظام الليتواني يفشل في توفير خيارات بديلة حقيقية للمستنكفين ضميريًا، بما يتوافق مع المعايير الأوروبية.

تكرار هذه الأحكام يعكس إصرار المحكمة على ترسيخ سابقة قضائية تقضي بضرورة فصل الخدمة المدنية عن أي ارتباط مؤسسي بالجيش، وإلا اعتُبر ذلك انتهاكًا لحرية المعتقد الديني وحرية الضمير المنصوص عليها في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وداخل ليتوانيا، أثار الحكم الجديد نقاشًا واسعًا، فقد صرح لوريناس شيدفيديس، رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، بأن "النظام بحاجة إلى إصلاح عاجل، بحيث يتيح خيارات أكثر واقعية للأشخاص الذين يرفضون الخدمة العسكرية لأسباب دينية أو شخصية"، وأضاف أن "الخدمة في القطاعات المدنية، مثل الرعاية الصحية أو الخدمات الاجتماعية، يجب أن تُعتبر ذات قيمة معادلة للدفاع عن الوطن".

هذا النقاش يعكس حالة التوتر بين مؤسسات الدولة التي ترى في الخدمة العسكرية ركيزة للأمن القومي، وبين منظمات المجتمع المدني التي تضغط لاحترام حرية المعتقد وحق الاستنكاف الضميري.

البعد الدولي والحقوقي

الحكم لقي ترحيبًا من منظمات دولية عدة. منظمة العفو الدولية أشادت بقرار المحكمة وعدته "انتصارًا مهمًا لحرية الضمير وحرية الدين في أوروبا"، أما منظمة "هيومن رايتس ووتش" فقد حثت ليتوانيا على إصلاح تشريعاتها فورًا، معتبرة أن استمرار الوضع الحالي "يضعها في تعارض مباشر مع التزاماتها الأوروبية".

الأمم المتحدة بدورها كانت قد دعت مرارًا إلى توفير بدائل مدنية حقيقية للخدمة العسكرية، مشيرة في تقرير لجنة حقوق الإنسان إلى أن الاستنكاف الضميري "حق أساسي ينبع من حرية الفكر والوجدان والدين"، كما تنص عليه المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

وأعادت ليتوانيا الخدمة العسكرية الإلزامية عام 2014 عقب ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وسط مخاوف أمنية متزايدة في منطقة البلطيق، ومنذ ذلك الحين، يُستدعى آلاف الشباب سنويًا للخدمة الإلزامية، ورغم مرور عقد على هذا القرار، لم يتم تطوير بدائل مدنية منفصلة بوضوح عن الجيش، وهو ما أدى إلى تواتر النزاعات القانونية مع المستنكفين ضميريًا.

على المستوى الأوروبي، يلاحظ أن معظم دول الاتحاد الأوروبي ألغت التجنيد الإجباري أو وفرت بدائل مدنية منفصلة. ألمانيا، على سبيل المثال، ألغت الخدمة العسكرية عام 2011 لكنها أبقت على الخدمة المدنية بوصفها خياراً تطوعياً، أما اليونان وقبرص، فتعرضتا لانتقادات أوروبية مشابهة لارتباط البدائل المدنية بالمؤسسات العسكرية.

الإحصاءات والواقع الميداني

وفقًا لتقارير رسمية، يخدم في الجيش الليتواني حاليًا ما يقارب 20 ألف شخص، بينهم 3 آلاف مجند إلزامي سنويًا. وتشير بيانات منظمات محلية إلى أن عشرات الشباب يطلبون سنويًا إعفاءً أو بديلًا مدنيًا لأسباب دينية أو ضميرية، لكن معظم هذه الطلبات تُرفض بسبب غياب إطار قانوني واضح.

على الصعيد الأوروبي الأوسع، يقدّر مجلس أوروبا أن نحو 7 آلاف شخص سنويًا يرفضون الخدمة العسكرية لأسباب دينية أو ضميرية، ما يجعل قضية ليتوانيا جزءًا من نقاش أوسع حول التوازن بين الدفاع الوطني والحرية الفردية.

تداعيات الحكم الجديد تتجاوز التعويض المالي المحدود، إذ يضع ضغوطًا مباشرة على الحكومة والبرلمان لإجراء تعديلات تشريعية تضمن بدائل مدنية حقيقية، كما يعزز احتمال رفع قضايا أخرى مشابهة أمام المحكمة الأوروبية ما لم يتم إصلاح النظام.

في الوقت ذاته، يضع الحكم ليتوانيا أمام تحدٍ في تبرير سياساتها الأمنية في مواجهة تهديدات جيوسياسية مستمرة من روسيا، ويحذر الخبراء من أن استمرار الخلل في موازنة هذه السياسات مع الالتزامات الحقوقية قد يؤدي إلى تآكل صورة ليتوانيا الدولة الملتزمة بالقيم الأوروبية.

أبعاد إنسانية

القضية تسلط الضوء على التجربة الشخصية للأفراد المستنكفين ضميريًا ممن يجدون أنفسهم عالقين بين واجب الدولة ومتطلبات ضميرهم الديني أو الأخلاقي، وهؤلاء الأفراد غالبًا ما يواجهون ضغوطًا اجتماعية وقانونية، وأحيانًا وصمًا مجتمعيًا باعتبارهم "متقاعسين عن الواجب الوطني". ومن هنا، فإن حكم المحكمة الأوروبية لا يمثل فقط انتصارًا قانونيًا، بل هو أيضًا اعتراف بمعاناة هؤلاء على المستوى الإنساني.

القضية الأخيرة ضد ليتوانيا تكشف مرة أخرى عن التوتر العميق بين مقتضيات الأمن القومي وحقوق الإنسان في أوروبا الشرقية، فبينما تصر السلطات على تعزيز الجاهزية العسكرية في ظل التحديات الجيوسياسية، تبقى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حارسًا للمبادئ الأساسية للحرية والضمير ومع تكرار الأحكام ضدها، تجد ليتوانيا نفسها أمام لحظة حاسمة لإصلاح نظام التجنيد، بما يضمن أن الدفاع عن الوطن لا يتعارض مع الدفاع عن القيم الإنسانية الأساسية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية